آخر المواضيع

منوعات

صوت وصورة

6/02/2015

نابليون الجديد


توفي البوعزيزي بعد ثمانية عشر يوما من إضرامه النار في نفسه وهو لا يكاد يعلم أن موته سيكون النقطة التي ستفيض الكأس، وأن النار التي التهمت جسده المتعب ستتحول بعده إلى بركان ثائر يلتهم الأخضر واليابس في طريقه لإقتلاع ما كان ثابتا ومتجذرا في الأرض لعقود من الزمن. خرج الناس إلى الشوارع بمختلف أعمارهم وأطيافهم يرفعون شعارات التغيير ضد نظام دكتاتوري كتم أنفاسهم وحكمهم بالنار والحديد لعشرات السنين، فكانت ثورة من أجل الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية. من هؤلاء من كان يؤمن بتلك الشعارات ومستعد للتضحية بروحه فداء لها، ومنهم من اضطر إلى رفعها والإختباء وسط الحشود بعد أن رأى رؤوس الفساد والظلم تتداعى أمام سيول المحتجين الجارفة. بعد أن غمرت شعارات الثورة وأحلامها وحشودها كل شبر في تونس ضاقت بها الحدود فكسرت كل السدود والعوائق وانتقلت إلى أوطان أخرى مليئة بالجائعين والمظلومين والمقهورين، مصر وسوريا وليبيا واليمن. اختلفت الأنظمة الدكتاتورية وتفاوتت درجة إجرامها، فاختلفت أيضا مصائر الثورات والثوار وتفاوتت أعداد القتلى والجرحى والمختفين قسرا وامتلأت الشوارع بالجثث والدماء. وسط كل هذا الزخم وأمام هول الصدمة وقفت كل التيارات الفكرية والسياسية حائرة ومرتبكة لا تعرف إلى أي جانب ستقف وأي كفة سترجح، فالإسلاميون انقسموا بين من يرى الحراك الشعبي "فتنة لعن الله من أيقظها" ومنهم من رأى فيه فرصة للتخلص من أنظمة قمعت الإسلاميين لعقود وملأت بأنصاره المعتقلات ومارست عليه شتى أنواع القمع والتنكيل والترهيب، وغيرت معالم الدول الإسلامية وحولتها إلى دول علمانية أو شبه علمانية وسخرت كل إمكانياتها من إعلام وقوانين وأجهزة أمنية لطمس الهوية والثقافة الإسلامية. أما العلمانيون والليبراليون والقوميون والشيوعيون فحاروا بين دعم أنظمة كانوا لها من المقربين ومكنتهم من المناصب والإمتيازات وجعلتهم يحتكرون المنابر الإعلامية وفتحت لهم المكروفونات والأبواق لنشر أفكارهم، وبين ملاقاة نفس مصير الأنظمة إن هي سقطت وتحمل تبعات دعم النظام ضد الثورة- مع وجود فئة من أنصار هذه التيارات ظلت مخلصة لمبادئها لكن بشكل فردي- لكن بعد ظهور بوادر انتصار الحراك الشعبي أصبح من الضروري اتخاذ موقف صريح وواضح والتبرء من الأنظمة الإستبدادية الحاكمة والإنتصار لإرادة الشعوب، فانضم الجميع إلى الحشود المتواجدة في الشوارع وبدأت الألوية والرموز ترفع وبدأ كل تيار يثبت حضوره وانتماءه بشكل أو بآخر، وتحول الجميع إلى ثوار فجأة. بعد سقوط رؤوس الإستبداد في مصر وتونس، انتهى تحدي "إسقاط النظام" وبدت مرحلة جديدة من عمر الثورة وهي مرحلة خلق نظام بديل يستجيب لمطالب الشعب في الحرية والعدالة والكرامة، وتم الإجماع على الآليات الديمقراطية لإيجاد هذا النظام، صوت الجميع بحرية في انتخابات شهد لها العالم بالنزاهة والشفافية وسجلت صعود التيار الإسلامي إلى دفئ السلطة بعد سنوات طويلة من برودة المعتقلات ووحشة التهميش والقمع. لكن الملاحظ في الإنتخابات الرئاسية التي عرفتها مصر وتونس أن مرشحين محسوبين على الأنظمة البائدة قد حصدوا نسبة لا بأس بها من الأصوات مما يعني وجود فئة لا يستهان بها تعارض التغيير الذي تطمح إليه القوى الثورية وعملت ما بوسعها لمنع صعود الإسلاميين إلى الحكم. فمن يا ترى هؤلاء؟ البعض اتهم "فلول النظام" من سياسيين ورجال أعمال، وآخرون اتهموا القوى السياسية التي ترفض فكرة صعود الإسلاميين إلى السلطة بدعم بقايا النظام ومحاولة القضاء على التجربة الديمقراطية في بلدان الربيع العربي من خلال ما سمي "الثورة المضادة"، ليتضح فيما بعد أن الأمر يشمل الجبهتين معا في تحالف صادم ومخيب لآمال وتطلعات الشعوب الثائرة. بعد استقرار الإسلاميين في سدة الحكم بدأت النخب السياسية العلمانية والليبرالية والشيوعية والقومية تحركاتها في تحالف واضح مع من اتضح فيما بعد أنهم ليسوا إلا رموز الأنظمة التي ثارت ضدها شعوبها بهدف إسقاط النظام الجديد، من خلال بث الشائعات والأكاذيب في وسائل الإعلام لشحن النفوس مستغلين في ذلك جهل فئة كبيرة من الشعب لتمرير مغالطاتهم، وافتعال الأزمات والإضرابات، وضخ الأموال لتمويل جماعات التخريب ونشر الفوضى (وهناك من صرح بتمويله لهذه الأنشطة صراحة كرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الموالي لنظام مبارك) لتحسيس المواطن بعدم قدرة النظام الجديد على توفير الأمن والإستقرار للبلاد، وقد نجحوا إلى حد ما في تحقيق أهدافهم وهو ما يفسر خروج الألاف في مسيرات معارضة للشرعية ومطالبة بانتخابات مبكرة ضد الرئيس المصري محمد مرسي وحكومة راشد الغنوشي في تونس، وبدأت مبادئ الديمقراطية تتساقط شيئا فشيئا كأوراق الخريف وفرضت كل أنواع الوصاية على اختيارات الشعوب، فالعلمانيون في مصر مثلا جهروا بضرورة استغلال الفرصة لتحويل مصر إلى دولة علمانية ولو كلف ذلك آلالاف القتلى (كما جاء في تسريبات لجلسات مغلقة للجنة وضع دستور ما بعد 30 يونيو) رغم أن اختيار المصريين للإسلام كان واضحا وجليا من خلال فوز مرشحي جماعة الإخوان المسلمين في ست استحقاقات انتخابية من بينها الإنتخابات الرئاسية. ومن الليبراليين من ذهب أبعد من ذلك فقال أن الأغلبية ليست بالضرورة محقة في اختياراتها مما يستوجب تصحيح أخطائها من قبل الأقلية، في تحد صريح ومباشر لإرادة الشعب المصري. أما في تونس فلم يختلف الوضع كثيرا بعد الإطاحة بمحمد مرسي، فالنخبة السياسية التونسية اعتبرت الإنقلاب العسكري الذي قاده السيسي "تجربة ناجحة" وجب محاكاتها في تونس لإيقاف زحف الإسلاميين، وهو ما يفسر تشكيل "جبهة إنقاذ" تونسية تجتمع فيها كل القوى المعارضة للنظام الجديد على غرار جبهة الإنقاذ المصرية، والسير على خطاها بنفس النهج والوتيرة والوسائل (إضرابات عمالية غير مبررة ورفع لسقف المطالب بما لا يتماشى وظروف المرحلة الإنتقالية، وعرقلة لسير مرافق الدولة واعتصامات هنا وهناك واستغلال لوسائل الإعلام لبث الأكاذيب والإشاعات ودعوات للجيش من أجل التدخل "من أجل حماية الشعب من تطرف الإسلاميين")، كل هذا أجبر حكومة راشد الغنوشي على التنازل عن السلطة وقبول إجراء انتخابات مبكرة تفاديا لتكرار المأساة المصرية التي راح ضحيتها ألالاف المصريين، وقال قولته الشهيرة "خسرنا السلطة من أجل كسب تونس ديمقراطية". وبقدر الصراخ و التنديد والتهويل الذي مارسته تلك القوى في عهد الإسلاميين على كل صغيرة وكبيرة على قدر صمتها وسكونها اليوم أمام جرائم الأنظمة الحالية والتي ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية كما صنفتها منظمات حقوقية دولية معروفة بحيادها ومصداقيتها وجودة تقاريرها، حتى أننا نرى اليوم رموزا ثورية شبابية لا تنتمي للتيار الإسلامي قادت الحراك الشعبي في الشوارع وهي ملقاة في غياهب السجون بتعم مثيرة للضحك والسخرية دون أن يجرؤ أحد على الدفاع عنهم بكلمة واحدة. فأين تلاشت أصوات تلك القوى والنخب يا ترى؟ إن المتابع لمسار الثورات العربية لا يصعب عليه استيعاب تنكر النخب السياسية العلمانية والليبرالية والشيوعية للمبادئ والأفكار التي كانوا يدافعون عنها قبل الثورات. وارتمائهم في أحضان الأنظمة الإستبدادية والمساهمة في إعادة ترسيخ حكمها وتقوية قبضتها على حساب تطلعات الثورة والثوار، لكن الأمر لا ينحصر في خيانة المبادئ والأفكار فقط بل يتجاوزه إلى كون هذه النخب بمساهمتها في إعادة الأنظمة الدكتاتورية إلى السلطة من جديد تكون قد ساهمت بشكل مباشر في ترسيخ تبعية العالم العربي للقوى "الإمبريالية" كما يسمونها لعقود أخرى من الزمن وحرمان أوطانهم من الحرية والديمقراطية التي كانوا يمنون الناس بها لعقود طويلة. لقد رأينا في الثورة الفرنسية كيف تحول قائد الثورة "نابليون" إلى دكتاتور جديد، وها نحن اليوم قد رأينا نابليونا جديدا جسدته القوى التي كانت تدعو للحرية والمساواة والكرامة الإنسانية في وقت من الأوقات، لتضرب بكل هذه المبادئ عرض الحائط عندما وصلت اللحظة الحاسمة، واختارت العودة بالزمن إلى الوراء لمجرد إدراكها بأن المستقبل لن يكون بأيديها وأن الرياح لن تأتي بما تشتهي السفن.

بقلم : هشام العين
التعليقات
0 التعليقات

إرسال تعليق

 
Copyleft © 2015 التثقيف الشبابي
Powered byBlogger