آخر المواضيع

منوعات

صوت وصورة

8/10/2018

نيكوس بولانتازاس ونظرية الدولة الرأسمالية

كتب: مارك مجدي
نيكوس بولانتازاس هو منظر ماركسي يوناني-فرنسي بارز، ظهرت أعماله في فترة الستينيات والسبعينيات لتؤثر بشكل كبير على الحالة الثقافية في أوروبا، كما أنها اعتبرت التعبير الأبرز عن التيار الماركسي الاكاديمي، فقد كانت أعمال بولانتازاس النظرية احد نتائج وجود تيار ماركسي في داخل الجامعة يدرس ويحلل ويسهم في تراث ممتد وطويل. ورغم كون بولانتازاس أكاديميا بالدرجة الاولي، الا انه كان متفاعلا وممارسا عمليا بدرجة لا تميز بينه وبين أي قائد حزبي، فقد انضم وساهم في تأسيس أكثر من حزب. وكان اهتمامه بالسياسة اليومية منعكسا على أعماله النظرية. واستمر تأثير ثولانتازاس على اليسار الغربي حتى يومنا هذا، ليعلن قادة سيريزا، الحزب اليساري الحاكم في اليونان بعد الازمة، انهم تأثروا ببولانتازاس بشكل رئيسي دونا عن اي مفكر غيرة.
ولد نيكوس بولانتازاس في أثينا عاصمة اليونان في 21 سبتمبر/أيلول عام 1936 لعائلة ميسورة الحال. وقد ظهر نبوغه كطالب في كلية الحقوق مبكرا جدا، بينما تنامي جنبا إلى جنب مع هذا النبوغ الدراسي اهتماما عميقا بالسياسة، على ضوء الرؤي اليسارية. انضم في هذه الفترة للحزب الشيوعي اليوناني، ثم انتقل بعد انتهاء الدراسة إلى فرنسا ليحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة القانون، ثم قام بتدريس علم الاجتماع في جامعة باريس واستمر في هذا العمل حتى وفاته.
نضج مشروعه الفكري والسياسي في فرنسا. فقد تأثر بولانتازاس (حسب “بوب جسيوب” أحد دارسيه ومؤلفا الكتاب الأهم حوله) بثلاث مصادر وتيارات أكاديمية وفكرية. الأول هو تيار الفلسفة الفرنسية، وبالتحديد بالفلاسفة سارتر والتوسير وفوكو. أما الثاني فهو الفكر السياسي الايطالي وفي مقدمته أنطونيو غرامشي. واخيرا، الفقه والتراث القانوني الروماني-الجرماني.
التحمت أعمال بولانتازاس مع هذه المشارب الفكرية الثلاث لتنتج أطروحات فكرية خاصة وملفتة حول مواضيع جوهرية بالنسبة للحركة اليسارية العالمية. نظرية الدولة، الطبقات الاجتماعية، الفاشية، والاستراتيجية السياسية.
انتقل بولانتازاس أثناء فترة دراسته من الوجودية متأثرا بسارتر الي الماركسية اللينينية، وصاحب هذا الانتقال أهتمام شديد بأعمال ألتوسير. ولكن في مرحلة عمرية متأخرة، قطع بولانتازاس علاقته مع الحزب الشيوعي لينضم إلى مجموعة يسارية شيوعية معروفة بالحزب الشيوعي في الداخل اليوناني، التي اعتبرت مجموعة معارضة للحكم في اليونان آنذاك.
وكانت هذه المجموعة الحزبية تعتبر من المجموعات الرائدة في ما سمي بـ الشيوعية الاوربية، التي قطعت مع بعض الافكار الارثوذكسية تطلعا إلى رؤية جديدة لانتقال ديمقراطي نحو الاشتراكية. وبرغم ضعف الحزب الصغير في الانتخابات البرلمانية، ظل بولانتازاس عضوا فيه حتى حادثة وفاته المأساوية، فقد انتحر بولانتازاس عن عمر الـ 43 عام 1979.
ومنذ وفاته، ظل بولانتازاس مرجعا للنظرية السياسية والاستراتيجية والدولة، ورمزا فكريا بالنسبة لتيارات يسارية مهمة في أوروبا.
حول نظرية الدولة
العمل الرئيسي الأول لبولانتازاس والمعنون باسم “السلطة السياسية والصراع الاجتماعي”، هو العمل الذي يطور فيه بولانتازاس نظرية قطرية للدولة الرأسمالية، وذلك في إطار مقاربة بنيوية، متبعا خطى لويس ألتوسير.
وعندما نتحدث هنا عن الدولة عند بولانتازاس أو غيره من المفكرين، فنحن لا نقصد بالتأكيد المعني القانوني السائد عن الدولة، أي أن الدولة هي أرض وشعب وحكومة، بل نقصد هنا الدولة باعتبارها السلطة السياسية والاجهزة المسؤولة عن إدارة المجتمع.
وقبل الشروع في أي دراسة وتحليل، يؤكد بولانتازاس أن ما يطرحه حول نظرية للدولة الرأسمالية هو طرح لنظرية قطرية في إطار القطر الأوروبي الغربي، حيث يصر بولانتازاس أنه لا يمكن أن تقوم نظرية عامة، اي عالمية، للدولة الرأسمالية. ويذهب بولانتازاس أن على الماركسيين حول العالم أن يطوروا نظرياتهم عن الدولة استنادا على نمط إنتاج محدد وعياني، فلا يمكن أن تكون الدولة في الصين متطابقه مع الدولة في فرنسا وتعمل في إطار نفس القوانين. وبذلك يعتمد بولانتازاس اولا على تحليل النمط الاجتماعي السائد وقوانينه الداخلية ثم ينطلق من خلال هذا التحليل إلى نظرية للدولة الراسمالية في الدول الاوروبية، ومنها إلى المجتمعات المتقدمة عموما، أو ما نطلق عليه “العالم الأول”. فإذا كانت الدولة هي مجموعة اجهزة طبقية، فلابد أن تشكل في إطار وضع طبقي معين، ومن خلال دراسة النمط الاجتماعي المنشأ لهذا الوضع يمكن فقط أن نفهم الدولة الرأسمالية. فلا يمكن أن يكون التنظير علميا حسب بولانتازاس، إلا عندما يحدد ويشخص في نمط إنتاج معين، ويدرك المكونات الرئيسية والمفصلية المشكلة له، وقوانين حركته وعامل الحسم داخلة.
ويتبع بولانتازاس نهج ألتوسير، عندما يقسم نمط الانتاج الرأسمالي الى ثلاث مستويات رئيسية تحدد العلاقة بينها البعض طبيعة حركته، وهم: المستوى السياسي، المستوي الاقتصادي، المستوى الأيديولوجي. وفقا للبنية الخاصة لكل مستوى، حيث أن كل مستوى يتمتع بقدر من الاستقلال الذاتي، ولكن بشكل نسبي. فيخضع كل مستوى للتراتبية بين المستويات الثلاثة، فهناك دائما عنصر حسم في التحليل الأخير، وهو المستوي الاقتصادي.
وعندما نستخدم مفهوم نمط الإنتاج كأداة تحليل، ليس من الممكن أن نحدد ما هو اقتصادي فقط (علاقات الإنتاج بشكل محدد) لكي نتمكن من تفسير ميكانزماته الداخلية، بل علينا أيضا تحديد البني والممارسات المتعددة التي تظهر لنا في حالات ودرجات مختلفة في إطار هذا النمط. او بمعني اخر ان نحدد نوع وطبيعة الوحدة الرئيسية التي تميز وتكون التشكيلة الاجتماعية وتحدد المستوى المسيطر فيه، وهذه الوحدة الرئيسية حسب بولانتازاس وفي “التحليل الأخير”، هي المستوي الاقتصادي.
هذه المنهجية تمنح بولانتازاس القدرة على أن يقوم بدراسة منفصلة للدولة الرأسمالية.
أن دور الدولة في النمط الرأسمالي ينفصل عن قاعدته، وهو ما يختلف عن النمط الإقطاعي الذي تتدخل فيه الدولة مباشرة لاستخراج فائض القيمة من العمل الزراعي، بينما لا تضطر الدولة الراسمالية لفعل ذلك. ففي النمط الرأسمالي، وما ان تؤسس العمليات الطبيعية لقانون القيمة ويبدأ فاعليته، يبدأ النمط الرأسمالي في العمل بدون حاجة لدور الدولة الإكراهي لاستخراج الفائض من الأيدي العاملة بشكل مباشر، فعملية الإنتاج في النمط الرأسمالي، تحدث في المصنع بشكل مستقل نسبيا عن الدولة.
فبينما كانت الدولة في النمط الإقطاعي هي المسئول الأول عن جمع الخراج من المزارعين الاقنان من خلال اجهزة القمع الجسدي الامنية، لا تتدخل الدولة بشكل مباشر في عملية الإنتاج الرأسمالي. فعندما يفصل الموظف من عمله، فذلك يحدث دون دور للدولة في هذه المسألة، رغم أنها تضع الإطار القانوني الذي ينظم هذه العملية.
إن الصفات التي تميز المستوى الاقتصادي في نمط الإنتاج الرأسمالي أثناء عملية إنتاج فائض القيمة، هي نتاج لهذا الفصل، أي فصل الدولة عن عملية الإنتاج. وهو الذي يحول العامل الي احد مكونات رأس المال، ويحول قوة عمله الى سلعة.
إذ يخبرنا ماركس ان عملية الانتاج في الرأسمالية هي عملية متحدة العناصر، وهذا الاتحاد بين عناصر نمط الانتاج، هو الذي يحدد الاستقلال الذي يحتذى به كل من المستوى السياسي والاقتصادي. وتتجسد هذه العملية عند ماركس في نقطتين. أ- في تأثيرها على الاقتصادي، على سبيل المثال: عملية الإنتاج المستقلة في النمط الرأسمالي التي لا تحتاج إلى تدخل فوق اقتصادي لضبط العملية، وهو ما ليس موجودا في أنماط أخرى. ب- تأثير هذا الاستقلال على الدولة الرأسمالية.
إذا كان ما هو اقتصادي يحظى باستقلالية عن السياسي، ما هو دور الدولة الرأسمالية في النمط الرأسمالي تحديدا؟
وفقا لبولانتازاس، لا تمثل الدولة الراسمالية بشكل لحظي ومباشر مصالح الطبقة السائدة، ولكن تعبر عن المصالح السياسية لهذه الطبقة على المدى الاستراتيجي البعيد.”لا تمثل الدولة المصالح الاقتصادية للطبقة السائدة مباشرة، ولكن المصالح السياسية: أنها مركز السلطة السياسية للطبقة المسيطرة، أي الوكيل المنظم لصراعها السياسي”.
ففي حالة إفلاس أحد الرأسماليين، لن تتدخل الدولة الراسمالية لتنقذه من هذا الإفلاس (رغم أنها تفعل في بعض الأحيان)، ولكن إذا كان هناك تهديد يؤدي لخسارة قطاع كبير من الطبقة المسيطرة لثروته، ستتدخل الدولة لانقاذهم ماليا وبكل السبل المتاحة، ذلك لان هذه الخسارة لن تؤدي فقط إلى خسارة اقتصادية، بل ستؤثر في المدي البعيد علي بقاء النظام السياسي، الذي هو معبر عن المصالح السياسية لقطاعات وشرائح هذه الطبقة. والمثال الأبرز أمامنا ما حدث في الولايات المتحدة عام 1930، عندما أعطيت تنازلات للطبقة العاملة على حساب المصالح الراسمالية قصيرة الأمد، وهو الذي أدى إلى استقرار طويل للرأسمالية الأمريكية. او ما حدث في 2008 عندما تدخلت الدولة لشراء بعض الشركات إنقاذا لها.
وما يطرحه بولانتازاس يثير التساؤل حول السبب الذي يدفع الدولة الرأسمالية إلى الحفاظ فقط على المصالح السياسية بعيدة الأمد للطبقة المسيطرة؟ يذهب بولانتازاس الي القول بان الدولة الرأسمالية تحقق ذلك من خلال البني القانونية والايدولوجية التي تخفي حقيقة العلاقة بين الطبقات و بعضها، أي علاقات التناقض الطبقي. فالنظام الرأسمالي يمارس عملية دمج جماعي علي مستوي واسع للطبقة العاملة في إطار عملية الإنتاج، ولكنه في نفس الوقت يفرض قوانين المنافسة التي تجعلهم يتصارعون فيما بينهم في إطار الطبقة الواحدة. والمثال الأكبر على ذلك، هو ما يخسره العمال من فوائد وامتيازات في مواجهة أصحاب العمل خوفا من خسارة العمل، بتهديد واضح من عمال جيش العمل الاحتياطي.
يطلق بولانتازاس على هذه العملية، أي عملية التجميع للطبقة العاملة ثم إشعال المنافسة داخلها، مسمى “تأثير العزل” والذي تفتت بواسطته الطبقة العاملة وتحبط وحدتها. ولا يؤثر “تأثير العزل” فقط على الطبقة العاملة، ولكن على مجمل الطبقات في النظام الرأسمالي بما فيها الطبقة الرأسمالية نفسها. فشروط المنافسة وقوانينها تنطبق على الرأسماليين المتنافسين على الربحية، هذا التنافس الذي يقسمهم إلى فئات وشرائح متضاربة المصالح (رأسمالية مالية، رأسمالية صناعية، الخ). وفي النهاية لا يمكن أن تصاغ الوحدة الطبقية في المستوى الاقتصادي، وبدون وجود هذه الوحدة لن تتمكن الطبقة السائدة من ضبط المنظومة الرأسمالية والحفاظ على سيادتها، وحينها سيترك المجتمع للآثار التدميرية الطبيعية للرأسمالية بجانب الأزمات الاقتصادية الدورية، التي إذا تركت بدون تدخل ستؤدي لخروج الوضع عن السيطرة.
اذا يتطلب الامر شكل من الوحدة بين اجنحة وأقسام الطبقة السائدة، رغم وجود التنافس الواقع في داخلها وفقا للطبيعة التنافسية للرأسمالية، وهنا يأتي دور الدولة الأساسي حسب بولانتازاس.
يبدو الوضع ظاهريا أن الدولة تعزز “تأثير العزل” عن طريق إعداد إطار مؤسسي يخفي العلاقات الطبقية وراء غشاء المساواة بين الأفراد المواطنين، وهو الذي يؤثر على الطبقات السائدة و المسودة على حد سواء، لماذا؟ لان الوحدة الطبقية لا يمكن صياغتها إلا في المستوي السياسي. “للدولة وظيفة خاصة وهي ضمان التماسك بين مستويات التشكيلة الاجتماعية”. “انه في مستوي الدولة يمكننا أن نفك مفاصل تشكيل البني”. “رغم الاستقلالية النسبية للمستوى الاقتصادي والمستوى السياسي في نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن سلطة الدولة هي سلطة طبقية”.”العلاقات الطبقية هي علاقات سلطة”.
وبما أن التماسك الطبقي تتم عرقلته في المستوي الاقتصادي نتاج “تأثير العزل” وسيطرة قانون القيمة على نمط الإنتاج الرأسمالي، تقع على عاتق الدولة مهمة ضبط المنظومة. فالدولة لا ترتب الإطار القانوني والسياسي الذي تستخدمه الرأسمالية لتعمل في إطار تشكيلة اجتماعية معينة فقط، بل تمتلك الدولة أدوارها الذاتية، الاقتصادية والقانونية والقمعية.
وتتوافق ادوار ووظائف الدولة الاقتصادية او الايدولوجية مع المصالح السياسية للطبقة السائدة، ليس فقط في تلك الحالات التي قد نجد فيها علاقة مباشرة وبديهية بين تنظيم العمل و التعليم من جهة، والحفاظ على السيطرة السياسية للطبقة السائدة من جهة أخرى، بل وايضا في تلك الحالات التي يجب أن تحافظ فيها الدولة على التشكيلة الاجتماعية التي تسيطر فيها الطبقة السائدة.
حين تمثل الدولة المصالح السياسية للطبقة المهيمنة، فهي لا تعتمد فقط علي القوة، بل يتعين عليها ان تضفي طابعا شرعيا على ممارستها. فكما ذكرنا سابقا، تتعمد الدولة اخفاء طبيعتها الطبقية بتقديم نفسها ككيان فوق طبقي له طابع شعبي ووطني، حيث يصنف الجميع كمواطنين متساوين أمام القانون والدستور.
غرامشي والهيمنة الثقافية:
وهذا يقودنا مباشرة للسؤال حول كيفية تحقيق الطبقة السائدة لهيمنتها، وعندما يدور الحديث حول الهيمنة كمصطلح، فمن الطبيعي أن يتجه حديثنا صوب أعمال انطونيو غرامشي.
كان التساؤل الأول بالنسبة لغرامشي هو كيفية حفاظ الرأسمالية على السلطة، وكان غرامشي اول من القى الضوء على الفكرة التي ناقشها بولانتازاس لاحقا، ومفادها أن البرجوازية لا تعتمد علي القوة فقط في الحفاظ على سلطتها .”على الرأسمالية أن تستخدم العصا، وعليها أن تستخدم الجزرة ايضا”.
ورغم أن غرامشي لا يتجاهل الدور الأساسي للدولة وهو الدور القمعي، أي دور القوات المسلحة، فهو يعتبر المفكر الماركسي الأول الذي اهتم بدور الإجماع الذي تحرص عليه الدولة للحفاظ علي سيادة البرجوازية. فللدولة مهمة بالغة الأهمية، هي إنتاج أساس الإجماع الجماهيري حول السلطة الحاكمة.
والدولة الفاشية في أوروبا هي نموذج عملي، فرغم وجود جانب تضليلي ايديولوجي مؤثر وقوي في أسلوب الفاشية للحكم، إلا أنها اضطرت إلى تقديم تنازلات للجماهير من خلال تدابير خاصة، رغم أن هذه التدابير لم تحول دون الاستغلال من خلال فائض القيمة النسبي. فقد قدمت سلطات الفاشية تدابير إيجابية مثل تخفيض البطالة وتحسين القوة الشرائية وبعض أشكال الضمان الاجتماعي، ومثل هذه التدابير هي التي أسست لقوة الفاشية جماهيريا بحق.
وهو ما جعل غرامشي يمضي وقتا طويلا في دراسة دور الايدولوجيا و الثقافة في المجتمع الرأسمالي، والكيفية التي تتموضع بها في داخل مكونات المجتمع المدني. “الإيديولوجيا البرجوازية يجب ان تحتضن من قبل الجماهير، بحيث يكون خضوعهم ووضعهم الأدنى قضية لا تطرح، بل يتحول الي فطرة سليمة”. وعلى الرغم من ذلك، لا يعتقد غرامشي ان الايدولوجيا السائدة تحكم بلا منازع، بل من الممكن تحدي سلطتها بالنضال الايدولوجي المضاد.
جنبا إلى جنب مع المستوى السياسي(الدولة)، تستخدم الطبقة المهيمنة اجهزة المجتمع المدني للحفاظ على سلطتها. والمجتمع المدني حسب غرامشي، هو مجموع الاجهزة والمنظمات الاجتماعية التي يطلق عليها “غير حكومية ” مثل الأحزاب، النقابات، الإعلام، منظمات التطوع. من خلال سيطرتها الثقافية والمادية على هذه المنظمات، تتمكن الطبقة السائدة من تكوين “الإجماع” الذي تدعيه وفرض هيمنتها الثقافية.
ويعطي بولانتازاس اهتماما كبيرا لعملية تشكيل الإجماع، والأساليب التي تمكن الطبقة السائدة من التعبير عن “المصلحة العامة” المزعومة.
وبما أن الدولة الرأسمالية الحديثة تطفي علي نفسها، وعلي الطبقة التي تسيطر عليها، طابعا شرعيا و قانونيا من خلال الإعلان الحقوقي بأن الجميع في تساوي امام القانون، فهي بذلك في حاجة ملحة إلى تكوين الإجماع الشعبي حول أساليبها وإجراءاتها من خلال أجهزة المجتمع المدني، وبالأخص المسئولة منها عن الايدولوجيا مثل الكنيسة والتعليم والإعلام والأحزاب.
وينكشف دائما زيف الادعاء بتمثيل الطبقة السائدة للمصلحة العامة في اللحظة التي تخرج الطبقات المسودة لتطالب بحقوقها، فتجد نفسها في مواجهة مباشرة مع اجهزة الدولة القمعية.
مفهوم الكتلة الحاكمة:
وأثناء دراسة بولانتازاس لأساليب حفاظ الطبقة السائدة على هيمنتها، توصل إلى مفهوم أساسي في مشروعه النظري وهو مفهوم “الكتلة الحاكمة”. يستخدم بولانتازاس مفهوم الهيمنة بمعني اخر بالاضافة الى استخدامه الأول، وهو استخدام لم يعرفه غرامشي. يذهب بولانتازاس أن خصائص الصراع الطبقي المكونة للدولة الرأسمالية في التشكيلة الاجتماعية الرأسمالية تعطي الامكانية لتكون “كتلة حاكمة”، مكونة من مجموعة طبقات وأجنحة طبقية. ومن بين هذه الطبقات والاجنحة يوجد طرف رئيسي سائد ومسيطر.
الحاجة إلى كتلة حاكمة تنشأ عند بولانتازاس نتيجة تأثير العزل، فبما أن البرجوازية تنقسم الى اقسام و اجنحة نتيجة قوانين المنافسة الراسمالية كما أوضحنا سابقا، فهي نتاج هذا الانقسام قد تكون غير قادرة على تحقيق الوحدة الطبقية. وأبرز مثال على ذلك، حسب بوب جيسوب ,تمثل في الراسمالية الامريكية ما قبل الحرب الاهلية، حيث دار الصراع بين البرجوازية الصناعية الامريكية و ملاك الأراضي و كبار التجار حول مسألة العبيد، وتمكنت الراسمالية الصناعية من ان تقدم مسالة تحرير العبيد علي انها مسالة مصلحة قومية، وتكونت كتلة حاكمة هدفها الأول والرئيس هو السيطرة الكاملة على عملية الإنتاج في البلاد لتسود مصالحها.
ويختلف شكل وتكوين الكتلة الحاكمة من دولة الي دولة اخري، ولا تتشكل الكتلة الحاكمة من اقسام البرجوازية فقط، بل ومن البرجوازية الصغيرة والارستقراطية العمالية كذلك. وهو ما يميز الكتلة عن الطبقة البرجوازية، فهي تحالف واسع بين الطبقة الرأسمالية باجنحتها واقسام عليا من الطبقات الأخرى الوسطى والشعبية.
وبما أن دور الدولة كما ذكرنا سابقا هو الحفاظ على مصالح الطبقة الحاكمة ووحدتها، فان هذا الدور ياخذ شكلا أوسع قليلا، وتصبح مهمة الدولة هي الحفاظ على التماسك بين أقسام الكتلة الحاكمة بصفتها الضامن لحكم الطبقة علي رأس هذه الكتلة. ويتضمن هذا الدور كافة الوسائل الممكنة للحفاظ على هذا التماسك، بما فيها استبدال الأقسام المكونة لهذه الكتلة بأقسام طبقية اخري، اي دخول الدولة في مواجهة صريحة مع احد اقسام الكتلة الحاكمة للحفاظ على مصالح بقية الأقسام لو تتطلب الأمر، وهو ما يعطي للدولة استقلالية ظاهرية في مواجهة الطبقات العليا.
ونتيجة تنوع وتناقض المصالح في داخل الكتلة الحاكمة، يلزم أن يسيطر أحد الاجنحة الطبقية في داخل الكتلة علي اجهزة الدولة ويديرها، ليأخذ على عاتقه المسئولية السياسية و الاستراتيجية . فلا يمكن للكتلة الحاكمة أن تعمل بالقدر المطلوب في مواجهة العدو الطبقي الخارجي المحتمل، الا تحت سيطرة أحد الأقسام المكونة لها. وفي نفس الوقت، فإن الموقع القيادي لهذا القسم القائد في داخل الكتلة الحاكمة يعتبر مكون رئيسي في إطار علاقات القوى الداخلية. فلا يعني ان هناك قسما مسيطرا علي الدولة ان سيطرته احادية و مطلقة، فهذه السيطرة نسبية بدورها و تستند علي علاقات القوة في داخل الكتلة الحاكمة، فقد نجد اجهزة الدولة في تضارب واحيانا في مواجهة بين بعضها البعض في حالة وجود اضطراب بين أقسام الكتلة الحاكمة.
وهو ما يقودنا لاستنتاج مهم وخطير، وهي أن الوحدة الطبقية وميزان القوى داخل الكتلة الحاكمة هو الذي يحدد أداء أجهزة الدولة وتحركاتها، فإذا نجد انفسنا امام صراع اجهزة في بعض الاحيان (وقد يصل الامر الى صراع أجهزة مختلفة تقوم بنفس الدور) فإن هذا الصراع ليس سوى تعبير عن الصراع فيما بين الكتلة الحاكمة. وهذا الطرح الذي يقترب اكثر فأكثر الى الواقع ليمثل حلا لمشكلة رئيسية عانت منها أطروحات الماركسية حول الدولة، فقد كانت عاجزة دائما عن تفسير التناقضات الداخلية للدولة وأجهزتها وكيفية انعكاس الصراع الطبقي بين فئات وأقسام الطبقة السائدة على أجهزة الدولة، فكون هذه الدولة في خدمة الطبقة السائدة لا يعني أنها كتلة صماء تتحرك بشكل ميكانيكي. ولأن في داخل كل مكون تناقضاته المنشأة له، فإن الدولة تصبح ساحة صراع طبقي فيما بين مكونات الكتلة الحاكمة وبعضها، بل وبين الكتلة الحاكمة وأعدائها الطبقيين من جانب آخر. وهو ما يشير إليه غرامشي ويوطده بولانتازاس تعبيرا عن مفهوم حرب المواقع.
وفي إطار نظريته القطرية للدولة الرأسمالية، يذهب بولانتازاس إلى أن دولة قد تحولت إلى علاقة اجتماعية “لا يجب النظر إلى الدولة الراسمالية بصفتها كيان متأصل في ذاته، بل هي علاقة قوي، وبتعبير أدق: التعبير المادي لعلاقات القوى بين الطبقات والأقسام الطبقية”. “ان الصراعات المتعددة بين الطبقات تتجسد في اجهزة الدولة، والتي ليس لها سمات ثابتة، بل إن أجهزة الدولة نفسها هي نتيجة لهذه الصراعات”.
يوضح بولانتازاس اذن ان القوى الطبقية المختلفة وطبيعة الصراعات بينها تؤسس الدولة وأجهزتها، فالدولة هي نتاج صراعات سابقة، ويحدد شكلها المستقبلي طبيعة الصراعات الطبقية الحاضرة والتوازن الواقع بينها. ان الدولة تؤسس الوحدة السياسية للطبقة السائدة كما ذكرنا سابقا، وبهذا تؤسس لسيادتها. ودور الدولة المنظم والمرتب لهذه السيادة لا يتضمن جهاز واحد من اجهزة الدولة، بل هو مهمة كل الأجهزة على حد سواء.
بالاضافة الى ان اجهزة الدولة تحافظ على هيمنة الطبقة السائدة وتعيد توزيعها من خلال إدخال الكتلة الحاكمة في لعبة مساومات تمهيدية. فالدولة تنظم وتعمل على وحدة الكتلة الحاكمة من خلال تفتيت وتقسيم الطبقات المسودة، والعمل على استقطابها إلى الكتلة الحاكمة وإعاقة منظماتها السياسية.
الاستقلالية النسبية للدولة:
الدولة الراسمالية تتمكن من: صياغة كتلة حاكمة، تحقيق الهيمنة على الطبقة المسودة والتفرقة بينها، تأمين المصالح ذات المدى البعيد للطبقات المسيطرة، فقط من خلال الاستقلالية النسبية التي تحظى بها عن المستوى الاقتصادى.
ويشخص دوج جرين مفهوم “الاستقلالية النسبية” بشقيه المكونين له، كمثل الطوق والكلب: فحبل الطوق ممكن أن يكون طويلا أو قصيرا، مما يحدد مسافة المناورة المتاحة للكلب، ولكن يبقى الطوق مربوط بالأرض مما يجعله ثابتا. هكذا الامر بالنسبة للدولة. الدولة هي دولة طبقة، تقمع الطبقات المسودة، تحافظ على السيطرة الاجتماعية وتمثل المصالح الطبقية للطبقات السائدة، لكن تحتاج الدولة إلى مساحة للتحرك ولا يمكن أن ترتبط بمصالح مجموعة صغيرة من الرأسماليين . فإذا كانت ستحكم باسم مصالح الطبقة الحاكمة بشكل عام، عليها اذن ان تكتسب القدرة علي المناورة ضد اي مجموعة او فرد رأسمالي يخرج عن المسار ليهدد المصالح الرأسمالية بعيدة المدى.
ولا ينفي هذا الطرح الطابع القمعي للدولة، ولكنه يوضح أن الدولة ليست مجرد انعكاس للمستوي القاعدي (الاقتصادي)، وتحتاج الى مساحة للحركة إذا كان عليها أن تنفذ المهام المطروحة عليها.
بولانتازاس ومفهوم الطبقات الاجتماعية
في كتابه “الطبقات والرأسمالية المعاصرة” يناقش بولانتازاس مفاهيم نظرية مؤسسة في الفكر الماركسي، مشتبكا مع الأطروحات التقليدية للحزب الشيوعي الفرنسي حول “الطبقة” و”الحزب” و”التحالف”، وغيرها من المفاهيم في اطار المشروع النظري الماركسي. ويبدأ انطلاقا مما يراه هو بمثابة عجز في استيعاب الحركة اليسارية لاوضاع الطبقات في الرأسمالية المعاصرة ومشكلاتها.
ولكي نمسك باساس مشروع بولانتازاس الفكري علينا أن نحدد ما يعنيه بولانتازاس بـ”الطبقة” اولا، وثانيا أن نتعرف على ما سيؤدي إليه معنى الطبقة عند بولانتازاس من تطبيقات سياسية واستراتيجية، وكيفية معالجته لقضية البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة على حد سواء.
تأسيسا على فهمه البنيوي للنمط الرأسمالي للإنتاج، اي ان النمط الرأسمالي له ثلاث مستويات محددة تتفاعل مع بعضها لتكونه: المستوى الاقتصادي، المستوى السياسي، المستوى الأيديولوجي. يذهب بولانتازاس متبعا منهجية ماركس، الى القول بان أن الطبقات الاجتماعية تتحدد بشكل رئيسي وفقا لدورها في عملية الانتاج، الا ان الاكتفاء بهذا التحديد لن يؤدي إلى النتائج المرجوة. لذلك يذهب بولانتازاس إلى أن المستوى الاقتصادي هو المستوي الحاسم في النمط الرأسمالي، ولكن مع التشديد على الدور الهام والمؤثر للمستوي الأيديولوجي والمستوى السياسي. فرغم أن الاقتصادي هو المحدد الأول، إلا أن تعريف الطبقة يجب ان يحدث وفقا للمستويات الثلاثة.
على المستوى الاقتصادي، فهو يتحدد عند بولانتازاس بناء على عملية الإنتاج، ومكانة الوكلاء المعبرين عن هذه الطبقة علي درجات السلم الاجتماعي، التي يحددها علاقات الانتاج. عملية الإنتاج هي عملية محددة تاريخيا في مجتمع مقسم إلى طبقات، يعبر عن علاقة مزدوجة بين البشرية والطبيعة. هذه العلاقة المزدوجة تتضمن أولا العلاقة بين العمال وأدوات الانتاج، ثانيا العلاقة بين الانسان والانسان الاخر، اي العلاقات الطبقية. هذه العلاقات تتشكل بدورها في جانبين: الجانب الأول هو الملكية، أي السلطة الحقيقة للبرجوازيين لاستخدام الموارد الاقتصادية والسلع المنتجة. ثانيا، هي الحيازة، أي القدرة على تشغيل وسائل الإنتاج. إن عملية استخراج فائض القيمة تتم بالدرجة الأولى في المستوى الاقتصادي، وبالتالي في المستوي الاقتصادي تتشكل الطبقات اولا.
ولكن يصر بولانتازاس على نقطة مهمة في تحديد الطبقات ووضعها في عمليات الإنتاج، فليس كل من يتقاضى أجر مقابل عمله هو عامل، لان ليس كل من يتقاضى اجر يعمل في عملية إنتاجية. اي ان المحدد هنا ليس هو تقاضي الأجر، بل العمل في عملية الإنتاج التي تؤدي إلى هيمنة النمط الرأسمالي وعلاقات الإنتاج الاستغلالية التي تتبع هيمنته، والتي تنتج فائض القيمة.
ولهذه الفكرة موقع رئيسي في منهجية بولانتازاس لتعريف الطبقة، وتشكيل الاستراتيجية الثورية والتحالفات الطبقية.
ويقدم بولانتازاس تفرقة مهمة بين “التحديد الطبقي” و”الوضع الطبقي”. التحديد الطبقي: “يحدد الوجود الموضوعي لوكلاء وممثلي الطبقة في التقسيم الاجتماعي للعمل، أي تلك الاماكن المحددة بعيدا عن إرادة هؤلاء المعبرين عن الطبقة. أما الوضع الطبقي فهو الوضع الذي يميز الطبقة عن الطبقة الأخرى. على سبيل المثال: هؤلاء العمال الذين يساندون أحزاب الطبقات الحاكمة. وعلى جانب آخر، من الممكن لأعضاء من طبقات اخرى ان يتبنوا وضع الطبقات العاملة ومصالحهم مثل المثقفين والبرجوازيين الصغار المساندون للاشتراكية والشيوعية. هذه التفرقة بين الوضع والتحديد الطبقي ستؤثر بشكل مهم على التحالفات الطبقية بين البروليتاريا والطبقات الاخرى، حيث انه من الممكن لطبقات أخرى أن تتبنى مصالح مغايرة لمصالحها.
البرجوازية الصغيرة:
يذهب بولانتازاس إلى أن “تحديد الطبيعة الطبقية للبرجوازية الصغيرة هي نقطة جوهرية بالنسبة للنظرية الماركسية حول الطبقات”. وأنه لا يمكن الاعتماد على تعريفها وفقا لعلاقات الانتاج والمعيار الاقتصادي فقط، بل لا يمكن أن نحددها الا من خلال العلاقات السياسية والأيديولوجية.
يفرق بولانتازاس بين البرجوازية الصغيرة في شكلها القديم و البرجوازية الصغيرة الجديدة. البرجوازية الصغيرة القديمة تتكون من صغار الملاك، الحرفيين، صغار التجار الخ.. أي من يجمعون بين صفة العمل والملكية معا. أما البرجوازية الصغيرة الجديدة هم العمال الذهنيين، المديرين والمشرفين والياقات البيضاء. يرى بولانتازس اذا ان كل من يعمل بأجر في عملية غير انتاجية هم البرجوازيين الصغار الجدد.
يؤكد بولانتازس على أن كل من البرجوازية الصغيرة القديمة والجديدة يشكلون معا طبقة واحدة، وهذه الطبقة لا تنتمي للنظام الرأسمالي بالشكل الكامل، فهي نشأت في إطار الاقتصاد السلعي البسيط، وهو مرحلة انتقالية بين النمط الإقطاعي والنمط الرأسمالي، ولكنها تطورت بشكل كبير مع النمط الرأسمالي.
كما أن البرجوازية الصغيرة لا تعتبر طبقة رئيسية في تكوين النمط الرأسمالي، ولكنها مستقطبة بين البروليتاريا والبرجوازية. وعلى الجانب الآخر، أي على المستوى الأيديولوجي، للبرجوازية الصغيرة في أوروبا سمتين رئيسيتين: رفض راهن للرأسمالية، اعتقاد بحيادية الدولة.
ونظرا لكون الطبقة العاملة تشكل اقلية طبقية في النمط الراسمالي المعاصر، فهي لذلك تلجأ للتحالف بشكل واسع مع البرجوازية الصغيرة باقسامها. وهنا يؤكد بولانتازاس أن البرجوازية الصغيرة ليست جزءا من الطبقات الشعبية، بل وأكد علي اهمية عدم الخلط بين مصالح البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة في إطار أي تحالف. ولكن هذا لا ينفي الضرورة الملحة للتحالف بين الطبقتين، مع التركيز على ضرورة تمايز المصالح العمالية لتحديدها، لان اختلاط المصالح الطبقية بين الطبقات المختلفة يؤدي إلى تحول الطبقة العاملة لخادمة مصالح البرجوازية، بل وان تفقد وعيها الخاص.
البرجوازية الوطنية والبورجوازية الكومبرادورية:
وبما ان البرجوازية الصغيرة كطبقة لا يمكن الاعتماد على تعريفها وفقا لعلاقات الإنتاج والمعيار الاقتصادي فقط، بل لا يمكن أن نحددها إلا من خلال العلاقات السياسية والأيديولوجية، هكذا الحال بالنسبة للاجنحة والشرائح في الطبقة البرجوازية نفسها.
وبالإضافة إلى دور الذي يلعبة تأثير العزل في تكوين تناقضات بين اجنحة الطبقة نفسها، فإن هناك حاجة موضوعية لهذا التقسيم بين الطبقة البرجوازية، “فبعض أجنحتها يعين مباشرة على الصعيد الاقتصادي لتكوين وإعادة إنتاج رأس المال: رأس المال الصناعي التجاري والمالي – رأس المال الكبير والمتوسط في مراحل رأس المال الاحتكاري للامبريالية) ولكن بالذات في المرحلة الامبريالية، تظهر تمايزات لا يمكن تعيينها على الصعيد الاقتصادي وحده كالتمايز بين البرجوازية الوطنية والبرجوازية الكمبرادورية”.
والبرجوازية الوطنية عند بولانتازاس هي ذلك الجناح من البرجوازية الذي تتصل مصالحه بتنمية الوطن الاقتصادية والذي يتناقض نسبيا مع مصالح رأس المال الأجنبي الكبير. ويؤكد بولانتازاس أن هذا التمايز يصلح بدرجة أكبر لبعض البلدان المستعمرة لكنه تمايز مهم، فعلي هذا التحديد يمكن تصور تحالف بين الطبقة العاملة والبرجوازية الوطنية ضد الإمبريالية الاجنبية ومن أجل الاستقلال الوطني.
ولا يقصر بولانتازاس وجود البرجوازية الوطنية فقط على البلدان التي تعاني من سيطرة المراكز الرأسمالية عليها، بل ان وجود البرجوازية الوطنية هي مسألة مرتبطة بدرجة معينة من التطور الاقتصادي الاجتماعي . “وفي المرحلة الحالية حيث تتخذ العلاقات الاجتماعية مدي عالميا، يظهر أنه يسهل التحدث عن بورجوازية وطنية. أي بورجوازية مناهضة عمليا للامبريالية الامريكية، ويرجع ذلك الي عالمية رأس المال المتزايدة، والى السيطرة الهائلة لرأس المال الأمريكي، وإلى انحطاط البورجوازية الاقتصادي والسياسي، إلى ميل تزايد في اتجاه علاقات اتكالية غير متكافئة بين مراكز الإمبريالية القديمة (خصوصا أوروبا) والولايات المتحدة الأمريكية. ولكن ذلك لا يعني أنه لا يمكن الحديث عن برجوازية محلية في تلك البلدان”.
وقد وجهت انتقادات عديدة لرؤية بولانتازاس حول مفهوم الطبقة كأداة تحليل وخصوصا حول مسالة البرجوازية الصغيرة، فيذهب كثيرون ان البروليتاري هو كل من يعمل بأجر ولا يملك وسائل إنتاج خاصة به، ويكفي ان تكون قوة عمل معروضة للتأجير من اجل ان يستمر في الحياة، فعملية استخراج فائض القيمة لا تتم حصريا في المصنع.
استراتيجية السلطة الجديدة
رفض بولانتازاس الطرح الذي يعتبر الدولة كتلة متجانسة محصنة ضد الانقسامات، بل ذهب إلى أن السبيل إلى الديمقراطية الاشتراكية عليه ان يدرك ان الصراع الطبقي لا يحدث في خارج الدولة، بل في داخلها ايضا. فلكي يتم الاستيلاء علي السلطة، يجب أن يمتد صراع شامل بالطريقة التي يعدل بها علاقات القوى في داخل أجهزة الدولة، أي الموقع الاستراتيجي للصراع السياسي.
وميز بولانتازاس نفسه عن الإصلاحيين والموجة الإصلاحية التي سادت في فترة ما بين صفوف اليسار الأوروبي، فقد اعتبر بولانتازاس أن الاستراتيجية الإصلاحية لا تعتمد علي الفوز والظفر بالسلطة، بينما تستند استراتيجية بولانتازاس على تحويل علاقات القوى داخل الدولة نحو الجماهير الشعبية، من خلال الاستيلاء على أجهزة الدولة قطعة قطعة.
ويقول ستاثيس كوفلاكيس، عضو اللجنة المركزية لـ سيريزا وأحد قادة الجناح اليساري، ان تحليلات غرامشي وبولانتازاس لعبت دورا رئيسيا في استيعاب الازمة الكبرى في اليونان. فلقد ساعد بولانتازاس سيريزا في صياغة استراتيجية الاستيلاء على السلطة من خلال الانتخابات. “إن السيطرة على الدولة يجب أن تتم من الداخل و من الخارج معا، من تحت ومن فوق معا” “اي حركة ثورية تستهدف الوصول الي السلطة بالطريق الانتخابي يجب أن تعي الخطر التي يحدق بها، وهو ان تمتصها الدولة”، هكذا يقول كوفلاكيس.
بولانتازاس والنظرية اللينينية:
رفض بولانتازاس الطرح الخاص بتحطيم الدولة، وأكد أنه لن تقوم تلك القطيعة التي ستمكن من تحطيمها. فالطريق إلى الاشتراكية يعتمد على مرحلة انتقالية طويلة، حيث تتجه أجهزة الدولة الخاصة بالديمقراطية التمثيلية إلى التوسع، اي ان تتحول الى اجهزة ديمقراطية فعلا بتمثيل الفئات الشعبية داخلها، وهو ما لن يحدث بالطبع إلا في ظل وجود القوى اليسارية في الحكومة.
فقد اعتبر بولانتازاس نظرية ازدواج السلطة التي صاغها لينين، والتي تعتمد علي وجود اجهزة ديمقراطية خارج أجهزة الدولة، نظرية غير واقعية. “فالدولة لن تسمح بظهور سلطة مضادة”.
ويعتقد بولانتازاس أن نظرية لينين حول الثورة (السلطة السوفيتية وازدواج السلطة) بنيت على عدة تصورات خاطئة : 1- أن الصراع هو صراع متقدم للمناورة ويدور خارج قلعة الدولة ويستهدف خلق وضع ازدواج السلطة. 2- قصر الثورة في مجرد الاستيلاء على السلطة، وهو ما ينقصه استراتيجية واضحة للانتقال إلى الاشتراكية. 3- تترك اللينينية سؤال حول كيفية تحويل اجهزة الدولة أثناء التحول إلى الاشتراكية بلا إجابة. وقد أسس بولانتازاس هذا النقد بناء على النقد الذي وجهتة روزا لوبكسمبورج للثورة البشلفية.
وربما قد أغفل بولانتازاس كثير من الأوضاع الخاصة بروسيا، وخصوصا قوة ودور اجهزة الدولة فيها، حيث كانت الدولة متغولة بشكل كبير، ولا يوجد هذا الدور المحدد للمجتمع المدني في الوضع الروسي ما قبل الثورة، كما أن قوى الثورة المضادة امتازت بعنف شديد لم يسمح للثورة بأن تأخذ وقتها في الانتقال البطيء على أسس راسخة نحو الاشتراكية. وكان الطريق الوحيد لمنظمات ديمقراطية للجماهير الشعبية هو خارج الدولة وليس في داخلها. ولكن تبقى قراءة بولانتازاس للتجربة السوفيتية قراءة نقدية تستحق الالتفات إليها والتفاعل معها.
بولانتازاس ناقدا لألتوسير:
وفي كتابه نظرية الدولة، يؤكد بولانتازاس أن تصور الدولة الذي طوره ألتوسير عن غرامشي فيما يخص تقسيم اجهزتها الى أجهزة قمع جسدي وأجهزة قمع ايديولوجي، هو تصور تبسيطي.
ورغم إشادته بهذا التصور، الذي ندين له بتوسيع مجال الدولة في الفكر الماركسي، وإبراز دورها الايدولوجي وحضورها في علاقات الانتاج، الا ان هذا التصور حسب بولانتازاس، ليس كافيا لتفسير مسائل ملحة. فلا يمكن تحديد دور الدولة الاقتصادي من حيث هو عملية يومية، فهي لا تستطيع في هذه المسألة سوي تعيين اطاره (الاقتصاد) بصورة مسبقة، ودورها مقتصر على منع التدخل فيه لعدم إثارة الاضطرابات.
ويعتقد بولانتازاس أن تصور التوسير قديم عن الدولة و يصلح فقط لتحليل الفترات الأولى لتسلم البرجوازية السلطة، وهذا التصور اغفل دور الإجماع الجماهيري الذي تحرص عليه الدولة.
ويأخذ الفاشية في أوروبا كنموذج، فرغم وجود جانب تضليلي ايديولوجي مؤثر وقوي في أسلوب الفاشية للحكم، إلا أنها اضطرت إلى تقديم تنازلات للجماهير من خلال تدابير خاصة ، رغم عدم منع هذه التدابير لاستغلال الشعب من خلال فائض القيمة النسبي.
“إذن مهمة الدولة ليس فقط القمع الجسدي والإيديولوجي من خلال المؤسسات الخاصة بهذه المهام قد نشأ تصور يقول بتقسيم اجهزة الدولة الى قمعية وايديولوجية، وتقع الغلطة الأساسية لهذا المفهوم في قصر مجال الدولة على ممارسة القمع، وعلى إعادة إنتاج الأيديولوجيا السائدة. ثمة سلسلة من الأجهزة، التي تنفذ بطبيعتها وظائف أخرى، غير القمع وغير اعادة الانتاج الايدولوجيا. ومع أن هذه الأجهزة لا تهدف إلى تدخل اقتصادي، فإنها تلعب دورا اقتصاديا ايضا. مثل الإدارة والسلطات القضائية والجيش والكنيسة ووسائل الاتصال …الخ. هذا الدور الاقتصادي تم إهماله تماما، شأنه شأن سلسلة فعاليات أخرى للدولة”.
من وجهة نظر بولانتازاس إذن، إن تمييز التوسير بين اجهزة قمع جسدي وأجهزة أيديولوجية هو تمييز اسمي، فوفقا لمراحل تطور الدولة كمعبر عن التغيرات في التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي تنبثق عنها، فإن بعض الاجهزة تستطيع الانتقال من مجال لآخر، والأمثلة علي ذلك كثيرة، أهمها المؤسسة العسكرية التي تتحول في ظروف تاريخية معينة إلى حزب البرجوازية الذي يمارس دورا تنظيميا وايديولوجيا بارزا. وقد تلعب المؤسسات الايدولوجية دورا رئيسيا في تنظيم جهاز الدولة وفي بعض الأحيان إدارته إدارة مباشرة.
بولانتازاس وميشيل فوكو:
اثارت اعمال بولانتازاس جدالا هاما في الحياة الثقافية الاوربية و الفرنسية بالاخص، وتفاعل معه كثير من الفلاسفة والمفكرين في مقدمتهم جيل دولوز و ميشيل فوكو.
فقد اعتبر كل من دولوز و فوكو ان التحليلات الماركسية حول السلطة هي تحليلات مطلوب تجاوزها نظرا لاتسامها بالتقليدية. فقد رفض فوكو التبعية التي بموجبها يتم اعتبار السلطة تابعة لنمط الإنتاج السائد في مجتمع ما، معتبرا بأن الاقتصاد متمثلا في المصنع يفترض آليات السلطة مسبقا، إذ لم يكن من السهولة تنظيم الأيدي العاملة والرفع من مردوديتها لولا توفر تقنيات التأديب وإجراءات الانضباط ووسائل المراقبة. فهناك علاقة مؤكدة بلا ريب بين أنظمة العقاب وأنماط الإنتاج، غير أنها ليست علاقة علة بمعلول.
ويعتبر فوكو بأن القمع والإيديولوجيا لا يشكلان معركة القوى كما يذهب التوسير ، وإنما ذلك الغبار أو “النقع الذي تثيره سنابك الخيل في المعركة”.. فتكنولوجيا الجسد السياسية-كما يسميها فوكو – في المجتمعات الغربية تستمد قواعدها وأساليبها وتقنياتها من علوم البصريات والميكانيكا والفسيولوجيا ،فلا حاجة بعدئذ إلى العنف والإيديولوجيا.
إن مفهوم السلطة في فكر ميشيل فوكو لا يستند على فلسفة في التاريخ ، أو”رؤيا للعالم” ، أو نظرية سياسية محددة ، وإنما يرتكز على منظور استراتيجي يركز بالدرجة الأولى على واقع الصراعات التي تخترق الحقل الاجتماعي: “فالسلطة ليست مؤسسة،كما أنها ليست قوة معينة وهبت للبعض :إنها الاسم الذي نطلقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين”.
وبعد أن كان بولانتازاس يتجاهل تماما فوكو كمفكر، التفت إلى اطروحاته بعد أن ذاع صيت هذا النقد الموجه إلى مفهوم الماركسية عن السلطة. كتب بولانتازاس: “عندما طور فوكر مفهومه الخاص للسلطة، استهدف بهجومه ماركسية غير محددة، قصصها وفق مزاجه و صنع منها مخلوقا كاريكاتوريا”.
وممكن إجمال رد بولانتازاس علي فوكو في عدة نقاط :
1- يرد بولانتازاس شارحا موقفه كماركسي ؛ أن حقل السلطة هو حقل روابط محدد بدقة ، أن سلطة طبقة ما ليست جوهرا تمسكة بين ايديها، و ليست حجما قابلا للترجمة الكمية. إن سلطة طبقة هي باديء بدء، تعبير عن موقعها الموضوعي داخل الروابط الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية. ويشمل هذا الموقع ممارسات الطبقات المتصارعة ، اي روابط متفاوتة للسيطرة والإلحاق مسجلة في التقسيم الاجتماعي للعمل، كانت على الدوام روابط سلطوية. إن موقع كل طبقة، وبذلك سلطتها، محددان ومعينين من خلال مواقع الطبقات الأخرى. فليست السلطة إذا مرتبطة بطبقة بذاتها، بل هي تنتج عن منظومة عقلانية لمواقع مادية.
2- من وجهة نظر بولانتازاس؛ أن تصور فوكو، يحبط أية مقاومة ممكنة للسلطة. إذا كانت السلطة موجودة على الدوام، وكأن كل وضع سلطوي مبرر بذاته، فلماذا اذا يجب أن توجد المقاومة، وكيف ستكون ممكنة؟
3- يدافع بولانتازاس عن ما يمكن إجماله في مفهوم حرب المواقع لدى غرامشي، فطرح فوكو لضرورة البقاء خارج السلطة هو أمر مستحيل، أن المرء لا يستطيع أن يضع نفسه خارج السلطة وأن يتخلص من روابطها، بل عليه أن يندمج فيها بهدف هدمها وتحويل مسارها، فهي النهاية السلطة هي حصيلة توازنات الصراع الطبقي.
خاتمة
لقد اثارت اعمال بولانتازاس فور نشرها نقاشات وجدالات محتدمة بين صفوف اليسار، وبالاخص الحزب الشيوعي سواء الفرنسي او اليوناني، ولاقت نقدا لاذعا وشديدا سواء من قبل ممثلي التفسيرات الجامدة للماركسية، أو من قبل ممثلين لتيارات يسارية أخرى. لقد طرح بولانتازاس استراتيجية جديدة نحو السلطة بالنسبة لليسار الأوروبي، استنادا على دراسة علمية وإحكام نظري غير مسبوق، مما جعله يشدد علي ان ما يطرحه مرهون بالوضع الرأسمالي في أوروبا ولا يمكن أن يتم تعميمه على أشكال أخرى من الدولة الناتجة عن انماط انتاج مختلفة. فقد تمكن بولانتازاس ان يقدم مرشدا فكريا لحركات يسارية لاحقة له تبنت طرحه، وبالفعل تبين أن الطريق مفتوح لوصول اليسار إلى السلطة في أوروبا بالآليات الديمقراطية، فنحن نشهد الآن حكومات يسارية في كل من اليونان و اسبانيا و البرتغال، ولكن لا تزال التحديات قائمة أمامها، فلم تنضج هذه التجارب بعد لتحقق الاستراتيجية التي رسمها بولانتازاس، أي أن تعدل التوازنات داخل الكتلة الحاكمة لصالح الطبقات الشعبية، وتستولي على أجهزة الدولة بناء على هذا التعديل.
وقد يبدو في معرض الحديث حول الخصوصية القطرية للنظرية التي قدمها بولانتازاس، أن أعماله لا تساهم في تحليل الوضع العربي و العالمثالثي بشكل عام، إلا أن الاستيعاب الحقيقي والنقدي لأعمال بولانتازاس يعطينا مفاتيح منهجية للبدء في وضع الأساس لمشروع نظرية الدولة للدول العربية. فبدون معرفة بالدولة و قوانين عملها الخاصة، بصفتها مستوى يحمل استقلاليته النسبية، فان مشروع اليسار كبديل عن التيارات الرجعية والانظمة الاستبدادية لن يكون ممكنا.
المصادر:
بولانتازاس، نيكوس: السلطة السياسية والصراع الاجتماعي.
بولانتازاس، نيكوس: نظرية الدولة.
بولانتازاس، نيكوس: الطبقات والرأسمالية المعاصرة.
بولانتازاس، نيكوس: الماركسية والطبقات الاجتماعية.
بولانتازاس، نيكوس: الدولة، السلطة، الاشتراكية.
بولانتازاس، نيكوس: الفاشية والديكتاتورية.
جيسوب، بوب: نيكوس بولانتازاس، النظرية الماركسية والاستراتيجية السياسية.
https://www.elyasarelyoum.com/
التعليقات
0 التعليقات

إرسال تعليق

 
Copyleft © 2015 التثقيف الشبابي
Powered byBlogger